تمثل محاربة سوء التغذية بجميع أشكاله واحدا من أكبر التحديات التي تواجه الصحة العمومية في العالم، لما لها من تداعيات خطيرة ودائمة بالنسبة إلى الأفراد وأسرهم والمجتمعات المحلية والبلدان، وتتعرض النساء والرضع والأطفال والمراهقون بصفة خاصة لمخاطر سوء التغذية، ومن الضرورة بمكان الاستثمار في الاحتياجات الغذائية.
وبعد أكثر من ثمانية أعوام من النزاع المدمر في اليمن يشكل سوء التغذية مصدر قلق كبير في أجزاء كثيرة من البلاد، وأدى تدهور الخدمات الصحية، والأزمة الاقتصادية، وانخفاض القوة الشرائية، إلى جانب صعوبة الحصول على مياه الشرب المأمونة، إلى زيادة معدلات سوء التغذية، وأصبح الوصول إلى الخدمات الصحية والتغذية وغيرها من الخدمات المنقذة للحياة أكثر صعوبة.
وفي تقرير أخير، أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، أن 2.2 مليون طفل يمني يعاني من سوء التغذية الحاد، من بينهم أكثر من 540 ألفا يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهي حالة مهددة للحياة في حال لم تعالج بصورة عاجلة، فيما تصاعد معدل سوء التغذية بين الأمهات بنسبة 25%، مما يعرض النساء والأطفال الحديثي الولادة للخطر.
ويعد الأطفال والنساء من الفئات الأكثر هشاشة وسط النزاعات، وللصراع الدائر في البلد أضرار فادحة طاولت قدرة الناس على الصمود، وأضعفت إمكانية العديد من الأسر في الحصول على الأغذية المغذية والآمنة والميسورة الكلفة، مثل الفواكه الطازجة والخضروات والبقوليات واللحوم والحليب، وترتبت آثار وخيمة على تلك الأسر وصحة أفرادها.
والوصول الإنساني لطالما كانت حاضرة في اليمن طوال الأعوام الثمانية الماضية وما قبلها، ولا زالت تعمل بنشاط على توفير المساعدات الغذائية المطلوبة بشدة، وضمان توفر الأطعمة المغذية المتخصصة للنساء والأطفال الذين هم في أمس الحاجة إليها، ولتدخلاتها التغذوية الخاصة والحساسة دور في تخفيض سوء التغذية، والحيلولة دون حدوث تدهور أكثر حدة من الحاصل الآن.
ماذا يعني سوء التغذية؟
ظهور سوء التغذية لدى شخص ما يشير إلى أوجه القصور أو التجاوزات أو الاختلالات في تناول هذا الشخص للطاقة أو العناصر الغذائية، ويشمل مصطلح سوء التغذية ثلاث مجموعات واسعة النطاق من الحالات الصحية، الأولى نقص التغذية، والذي يشمل الهزال (انخفاض الوزن بالنسبة إلى الطول)، والتقزم (قصر القامة بالنسبة إلى العمر)، ونقص الوزن (انخفاض الوزن بالنسبة إلى العمر).
والثانية سوء التغذية المتعلق بالمغذيات الدقيقة، والذي يشمل عوز المغذيات الدقيقة (نقص الفيتامينات والمعادن المهمة) أو فرط المغذيات الدقيقة، والمجموعة الثالثة هي فرط الوزن والسمنة والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي (مثل أمراض القلب والسكتة الدماغية وداء السكري وبعض السرطانات).
والصراعات المسلحة والظواهر المناخية المتطرفة والآثار المستمرة لجائحة كوفيد-19، والأزمات الاقتصادية والمعيشية وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، وغيرها الكثير، تدفع أعدادا متزايدة من الأطفال دون سن الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات إلى براثن سوء التغذية.
وأثرت الحرب في أوكرانيا على وصول الواردات ونقص المواد الغذائية وسط ارتفاع أسعار السلع الأساسية، بما في ذلك القمح وزيوت الطعام والوقود، مما أدى إلى مستويات كارثية لسوء التغذية في البلدان التي تشهد نزاعات، ومنها اليمن التي تعتبر إحدى مراكز الجوع عالميا وفقا لتقييمات أممية سابقة.
والتغذية الصحيحة تغير اللعبة، فالأشخاص الذين يتغذون جيدا هم أكثر ترجيحا ليكونوا أصحاء، منتجين، وقادرين على التعلم، ويعد عنصرا اليود والحديد وفيتامين "أ" من أهم المواد المتعلقة بالصحة العمومية العالمية، ويمثل عوزها خطرا كبيرا على الصحة.
والاستثمار في الوقاية وعلاج سوء التغذية ينقذ الحياة، ويحول دون تعرض المزيد من الأطفال الأكثر ضعفا والنساء في عمر الإنجاب للخطر، وتظهر الدراسات أن تحسين التغذية لا ينقذ الحياة فحسب، لكنه أيضا استثمار ذكي، حيث يوفر كل دولار أمريكي يستثمر في التغذية 10 دولارات للبلاد في المقابل.
الأرقام ترسم صورة قاتمة
أظهرت بيانات وزعها برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، مطلع العام الجاري، أن 3.5 ملايين شخص في اليمن، بما في ذلك 1.3 مليون امرأة حامل أو مرضع وفتاة، يعانون من سوء التغذية الحاد، وأن ما يقرب من نصف الأسر اليمنية، 49% على الصعيد الوطني، يعاني من عدم كفاية استهلاك الغذاء مع معدلات مرتفعة للغاية في 15 محافظة من أصل 22 محافظة.
وتشير إحصاءات إلى أن طفلا واحدا من بين كل خمسة دون سن الخامسة في أنحاء مختلفة في اليمن يعاني من سوء تغذية حاد، وأن 45% من الأطفال يعانون من التقزم، وأكثر من 86% يعانون من فقر الدم، ومن المتوقع أن ترتفع الأرقام نظرا لاستمرار الأزمة في البلاد.
وفي تحليل حديث للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي حول اليمن، صدر في مايو الماضي، أكدت كل من منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة "الفاو" وبرنامج الأغذية العالمي، و"اليونيسف"، أن بعض المناطق اليمنية لا تزال تعاني من مستويات حرجة من سوء التغذية الحاد.
وفي تقرير عن الوضع الإنساني في اليمن خلال النصف الأول من العام الحالي، صدر في يونيو الماضي، وصف مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "أوتشا"، سوء التغذية في البلد بالمعقد، وقال إنه نجم عن مجموعة من العوامل تشمل انعدام الأمن الغذائي، وسوء نوعية الأغذية، وتفشي الحصبة، وانخفاض التغطية في حملات التحصين، ومحدودية الوصول إلى المياه النظيفة والصرف الصحي، وارتفاع مستويات الإصابة بالمرض.
وقال المكتب الأممي، إن ارتفاع مستويات الإصابة بالأمراض ومحدودية فرص الحصول على الرعاية الصحية يؤديان إلى تفاقم الوضع، وإن هذه العوامل أسهمت في مستويات عالية للغاية من التقزم، ما يؤدي إلى خسارة عامة بسبب انخفاض النمو المعرفي والبدني، وانخفاض القدرة الإنتاجية، وضعف الصحة، وزيادة خطر الإصابة بالأمراض.
وعن كيفية مواجهة هذا الوضع، ذكر مكتب الشؤون الإنسانية أن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة الدوافع الكامنة وراء انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك الصراع والتدهور الاقتصادي ونقص المساعدات الإنسانية، وحذر من أن يؤدي التقاعس إلى أزمة إنسانية أكثر حدة، وتفشي الأمراض، والممارسات التغذوية غير المثلى، وتفاقم وضع التغذية الضعيف أصلا.
حلقة لا نهائية من الفقر واعتلال الصحة
يؤدي نقص التغذية إلى سرعة التأثر بالمرض والتعرض للوفاة ولاسيما بالنسبة إلى الأطفال، وبحسب تقارير أممية، ترتبط نسبة 45% تقريبا من وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنقص التغذية، ويحدث معظم هذه الوفيات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
وسوء التغذية يزيد من تكاليف الرعاية الصحية، ويتسبب في تبعات فظيعة على الأطفال الأشد ضعفا، ويترك تبعات مدمرة على حياة النساء وعافيتهن، ويفاقم الفقر مخاطر الإصابة بسوء التغذية والمخاطر التي تنتج عنه، والأشخاص الذين يعانون من الفقر أشد تعرضا للإصابة بمختلف أشكال سوء التغذية، فهم يضطرون إلى تدابير يائسة لإطعام أنفسهم وأسرهم، ولهذا الأمر تداعيات كبيرة على الصحة البدنية والعقلية.
كما يعد النظام الغذائي غير الصحي وسوء التغذية من عوامل الخطر الرئيسية للإصابة بأمراض أمراض القلب والأوعية، وتؤدي التغذية غير الكافية إلى ضعف التطور الإدراكي، وإضعاف جهاز المناعة، وبحسب تقارير أممية يزيد ضعف أجهزة المناعة من خطر الوفاة بين هؤلاء الأطفال دون سن الخامسة بنسبة تصل إلى 11 مرة مقارنة بالأطفال الذين يتغذون جيدا.
وفي تصريحات سابقة نشرها أخبار الأمم المتحدة، قالت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل: "يعد سوء التغذية تهديدا كبيرا لبقاء الأطفال ونشؤهم ونموهم"، وأضافت أن حجم أزمة التغذية يتطلب استجابة أقوى تركز على الأطفال، مؤكدة أن أزمة الجوع العالمية تدفع ملايين الأمهات وأطفالهن نحو الجوع ونقص التغذية الشديد، "ومن دون عمل عاجل من المجتمع الدولي، قد تستمر تبعات ذلك إلى أجيال عديدة قادمة".
فيما قال المدير العام للفاو، شو دونيو، إنه من المرجح أن يتدهور الوضع أكثر في عام 2023، وشدد على الحاجة إلى ضمان توافر نظم غذائية صحية والقدرة على تحمل تكاليفها وإمكانية الوصول إليها للأطفال الصغار والفتيات والنساء الحوامل والمرضعات، وأضاف: "نحن بحاجة إلى إجراءات عاجلة لإنقاذ الأرواح الآن ومعالجة الأسباب الجذرية لسوء التغذية الحاد والعمل معا في جميع القطاعات".
بينما قال مدير عام منظمة الصحة العالمية د. تيدروس أدهانوم غيبرييسوس: "يحتاج الناس إلى الحصول على طعام ميسور التكلفة ومغذ، فضلا عن الدعم خلال هذه الأوقات العصيبة"، وتابع يقول: "يضعف نقص الغذاء والتغذية جهاز المناعة لدى الناس ويزيد من تعرضهم لخطر الإصابة بالأمراض"، وأضاف تيدروس، أن الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية أكثر عرضة للوفاة من الالتهاب الرئوي وأمراض الإسهال والحصبة.
هذا ما قامت به الوصول الإنساني في 18 مديرية
تستجيب الوصول الإنساني لأزمة سوء التغذية الضخمة في اليمن، وتعمل جاهدة لمنع جميع أشكال سوء التغذية من خلال تحسين إمكانية الأطفال والنساء في الحصول على أنماط غذائية مغذية وآمنة، وتعزيز الممارسات الأمثل للتغذية والنظافة الصحية والرعاية للأطفال والنساء، لينعم الجميع بالصحة والعافية.
وخلال ستة أشهر، وتحديدا من يناير وحتى يونيو 2023، نجحت الوصول الإنساني في الوصول إلى 79422 من الأطفال والأمهات الحوامل والمرضعات، من خلال مشروع الدعم الطارئ للفئات الأكثر ضعفا - الأطفال دون الخمس السنوات والأمهات الحوامل والمرضعات - بخدمات التغذية العلاجية والوقائية، بتمويل من برنامج الأغذية العالمي WFP.
واستهدف المشروع 18 مديرية في ثلاث محافظات متأثرة بشدة من النزاع، وهي مديريات القاهرة ومشرعة وحدنان والمسراخ وجبل حبشي والمواسط والوازعية في محافظة تعز، ومديريات الملاح والمسيمير والمضاربة والعارة والمقاطرة وردفان والحد وحبيل جبر وطور الباحة في محافظة لحج، ومديريات المدينة والوادي وحريب ورغوان في محافظة مأرب.
وساهم المشروع في إنقاذ حياة الأطفال - دون الخامسة- الذين يعانون من سوء التغذية الحاد وتحسين الحالة التغذوية للنساء الحوامل والمرضعات، كما ساهم في الوقاية من سوء التغذية الحاد من خلال تعزيز الأغذية الوقائية ودعم المغذيات الدقيقة، بالإضافة إلى التوعية والتثقيف الصحي، وذلك عبر 121 مرفقا صحيا ثابتا، و216 نقاط توزيع الأغذية، و14 عيادة متنقلة، وبمشاركة 603 متطوعة.
والطفل صماد جميل – 10 أشهر- ورهف سيف – 24 شهرا- ومحمد بدري – 7 أشهر- وزينب سامر – 25 شهرا- سوى نماذج بسيطة لأطفال كانوا يعانون من سوء التغذية بعيون غائرة وأجساد نحيلة، وبفضل هذا المشروع تمكنوا من الشفاء، وأصبحت البسمة لا تفارق شفاههم بعد أن كان أقرباؤهم قد يئسوا من بقائهم على قيد الحياة، وهم الآن ممتنون بشدة لهذا المشروع الذي ساعدهم على البقاء والتعافي وعيش حياة صحية.
وفي تصريح خاص، قال الدكتور عبدالواسع الواسعي أمين عام الوصول الإنساني، إن مشروع الدعم الطارئ للفئات الأكثر ضعفا - الأطفال دون الخمس السنوات والأمهات الحوامل والمرضعات- بخدمات التغذية العلاجية والوقائية في ثلاث محافظات، له دور أساسي في إنقاذ الأرواح، وقدم مساعدات ضرورية من أجل تمكين المستفيدين من الوقوف على أرضية صلبة، وجاء في وقت الحاجة المتزايد لها في البلاد.
وأوضح الدكتور الواسعي، أن معالجة سوء التغذية تعتبر إحدى الأولويات الرئيسية للوصول الإنساني، ولا يمكنها ببساطة أن تتوقف الآن، فهناك جيل كامل مهدد بالفقدان في ظل الوضع الغذائي المتدهور في اليمن وتدهور قدرة الفئات المستضعفة على الوصول إلى النظم الغذائية الصحية، مؤكدا أن هناك حاجة إلى الاستثمار في برامج التغذية الأساسية، وتجنب تبعات فضيعة على الأطفال والنساء بسبب مستويات كارثية لسوء التغذية.