يعيش الشعب اليمني تحت وطأة ضيق العيش، وصراع مرير من أجل البقاء، بسبب استمرار الصراع في البلاد منذ سنوات، وتؤثر التحديات المستمرة المتعلقة بالانهيار الاقتصادي، وانهيار عدد كبير من الخدمات الأساسية وأنظمة الحماية الاجتماعية، على قدرة السكان على تأمين احتياجاتهم الأساسية، مما يدفعهم إلى اللجوء إلى استراتيجيات التكيف السلبية.
كما يفاقم النزوح هذه التحديات، واليمن المنكوب بفقر وبطالة مزمنة، شهد على مدى الأعوام الماضية من الحرب، نزوح نحو أربعة ملايين ونصف مليون، أغلبهم من الأطفال والنساء، وفقا لتقارير أممية، وهؤلاء النازحون قسرا يعانون طبقة أخرى من ضيق العيش، ويكافحون لتوفير الضرورات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي منتصف سبتمبر 2023.
وتقع على عاتق المجتمع الإنساني مسؤولية العمل معا لإيجاد حلول دائمة تتيح للفئات الضعيفة فرص العيش بكرامة، وتحسين قدرة الحماية للفئات ذات الاحتياجات الخاصة، كالنساء والأطفال، وتوسيع نطاق فرص الاعتماد على الذات خصوصا في المناطق الهشة، ومجتمعات النازحين، وكذا مساعدة ودعم المجتمعات التي استضافتها بسخاء، حتى يكون الجميع بأمان.
وباعتبار الوصول الإنساني إحدى أهم المنظمات الفاعلة ضمن المجتمعات الإنسانية في اليمن، فقد وفرت بيئة موثوقة وآمنة ومتنوعة تستجيب لصدمات الفئات الأكثر ضعفا، التي تستهدفها عبر مشروع الحماية ودعم سبل العيش، بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA، وأدى ذلك إلى نتائج بالغة الأهمية في محافظات حضرموت ومأرب والمهرة وشبوة والحديدة، كما تجدون في ثنايا هذا التقرير.
أكثر من 17 ملايين يمني بحاجة للمساعدة والحماية
وفقا لبيان مشترك أصدرته وكالات الأمم المتحدة الرئيسية ومنظمات دولية غير حكومية، منتصف سبتمبر من العام الجاري، فإن أكثر من 21.6 مليون شخص، أي 75% من سكان اليمن، يعانون بالفعل من الإرهاق بسبب تسع سنوات من النزاع، ويتصارعون مع الاحتياجات الإنسانية.
ويحتاج ما لا يقل عن 17.7 مليون شخص إلى المساعدة والخدمات المتعلقة بالحماية، وتواجه النساء والفتيات، على وجه الخصوص، مخاطر متزايدة للعنف والاستغلال أثناء محاولتهن الوصول إلى الخدمات الأساسية بسبب الرحلات البعيدة والصعبة، وهناك أكثر من 9 ملايين طفل معرضون للخطر، ويحتاجون إلى الحماية والخدمات الأساسية.
وتأتي هذه الأرقام الصادمة، وسط تحذيرات لخبراء اقتصاديون من أن أزمات أشد تصاعدا قد تواجه ملايين السكان اليمنيين في حال استمر النزاع في البلد، مما يتطلب مشاريع واعية وفعالة لاستيعاب الفئات الضعيفة في القطاع الاقتصادي والإنتاجي، ودعم حقوق الأشخاص الذين ينشدون الأمان من الحرب والعنف، بما يتماشى مع حقوق الإنسان والكرامة.
وهو ما أدركته الوصول الإنساني مبكرا، ومستعينة بخبرات عريضة ومرونة وشفافية عالية، عملت بلا كلل على المساهمة في بناء أنظمة للحماية الاجتماعية الشاملة، وتوسيع نطاق سبل كسب العيش، والتضامن مع المجتمعات التي تستضيف النازحين، من أجل تمكين الناس من أسباب القوة في اليمن الذي يضربه الفقر والمجاعة في أسوأ كارثة عالمية، وفق وصف الأمم المتحدة.
سبل الدخل وبرامج الحماية تعالج أزمات متعددة
ظروف اقتصادية صعبة يتعرض لها اليمنيون وخاصة النساء، وأدى الانهيار الاقتصادي الناجم عن الصراع إلى تدمير هيكل سوق العمل في اليمن، وغياب الفرص الاقتصادية المتاحة لكسب العيش للفئة العاملة من السكان، مما ترك الأشخاص الضعفاء عرضة لظروف قاسية تهدد بنتائج كارثية تطال الجميع.
كما أن تدني المستوى المعيشي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين النساء تمثل تحديات أمام تقدم المرأة اليمنية، وهناك عدد كبير من الأسر تقودها النساء، في ظل الحرمان من أقل الحقوق في مختلف المناطق، وبحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الأمان والحماية، وتمكينهن من مواجهة الصعوبات.
وتعد فرص العمل وكسب الرزق واحدة من الطرق الأكثر فعالية، التي تتيح للأشخاص إعادة بناء حياتهم على نحو كريم وآمن، كما أن توفير سبل الدخل المستدامة وبرامج الحماية الاجتماعية تعالج مشاكل متعددة ومترابطة، بما في ذلك الفقر والبطالة، وتعزز صمود المستضعفين لمواجهة الظروف الصعبة، وهذا من شأنه أن يخفف من الاعتماد على المساعدات الإنسانية مع مرور الوقت، وله دور حاسم في التعافي مستقبلا.
وما تقوم به الوصول الإنساني في اليمن يمثل نموذجا حيا لهذه النظرية، فبدعم من الشركاء والمانحين يتم مساعدة الأسر الضعيفة في اكتساب المهارات الحرفية، وتعلم الصناعات اليدوية، وتشجعيها على كسب العيش، لضمان تلبية احتياجاتها الأساسية والوصول إلى الخدمات، وكذا دعم تطلعاتها إلى المستقبل، والابتعاد عن المساعدات نحو الاعتماد على الذات.
وفي تصريح خاص، قال الأستاذ رياض محمد المدير التنفيذي للوصول الإنساني، إن توفير سبل الدخل المستدامة وأنظمة الحماية الاجتماعية تحمي الفئات الأكثر ضعفا من الأزمات والضغوط طوال حياتهم، مضيفا أن الوصول الإنساني تحرص على تنفيذ برامج تتسم بالفاعلية ومصممة جيدا في هذا المجال لضمان التأثير الإيجابي على المدى الطويل.
وأوضح الأستاذ رياض، أن النساء والفتيات تعد ضمن الفئات الأكثر ضعفا في الأزمة اليمنية، وأدى النزوح وتفكك شبكات الحماية على مدى السنوات الماضية إلى مفاقمة ضعفهن بشكل كبير، وتعرضهن للعنف وبروز تهديدات خطيرة على حقوقهن، وهناك الكثير من النساء فقدن أزواجهن، وبحاجة ماسة إلى مساحات آمنة كأساس ينطلقن منه نحو الازدهار، وإحداث تحول في الحياة.
59776 مستفيدا من 11 مساحة آمنة للنساء والفتيات
في وضع يسوده اليأس والحرمان، مثلت الوصول الإنساني نقطة أمل للفئات الفقيرة والأكثر احتياجا، وخاصة الأطفال والنساء، بما في ذلك النازحين والمجتمعات المضيفة، من خلال مشروع الحماية ودعم سبل العيش، "المساحة الآمنة للنساء والفتيات"، الممول من صندوق الأمم المتحدة للسكان.
والذي يجري تنفيذه في محافظات حضرموت ومأرب والمهرة وشبوة والحديدة، للعام الرابع على التوالي، لضمان حصول الأشخاص المستضعفين على حقوقهم، وإيجاد حلول للعيش بكرامة وأمان، والاستجابة لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي عبر تقديم خدمات متعددة القطاعات المتخصصة للنساء والفتيات.
ويساهم المشروع في رفع الوعي المجتمعي لمناهضة العنف ضد المرأة، وتغيير مفاهيم عديدة خاطئة لدى الناس، وإيصال الضعفاء إلى شبكات الأمان الاجتماعي وآليات الحماية بهدف تمكين المجتمعات الضعيفة من بناء مستقبل أكثر أمانا، وقد نجحت 11 مساحة آمنة للنساء والفتيات منتشرة وتتسق مع البيئة، خلال الفترة من يناير وحتى أغسطس 2023، في وصول 59776 مستفيدا لخدمات المشروع.
كما تساهم تدخلات المشروع في نهوض الكثير من الأسر وتمكنها من الوصول إلى الموارد الاقتصادية اللازمة، وقد جرى تمكين الكثير من النساء في مجالات مهنية مختلفة، منها الخياطة، وصناعة العطور، وصيانة الجوالات، وأخرى بما يجعلهن قادرات على الاستمرار في العطاء رغم الظروف الصعبة، مع العلم أن تمكين المرأة اقتصاديا يدعمها ماديا ونفسيا، وينعكس إيجابيا على المجتمع ككل.
والمرأة اليمنية تعرضت إلى نكسات، وهي دائما طموحة، لكنها تواجه تحديات أمام رغبتها في تحقيق ذاتها، ولهذا لبى المشروع احتياجاتها الهامة بالنظر إلى خدماته المتنوعة، والتي شملت أيضا خدمات قانونية وتوعية لمعرفة حقوقها المشروعة، ودعم نفسي لتجاوز الصدمات، وأخرى متعددة القطاعات تؤكد أن أنظمة الحماية وبرامج توفير سبل العيش تقع في صميم جهود الوصول الإنساني.
استجابة لاحتياجات الطفل ودعم حقه في التفاعل واللعب
للأطفال طموحات وأحلام، لكن الحروب والنزوح والظروف الاقتصادية عطلت هذه الأحلام، وهم الأقل قدرة على التكيف بسبب ضعفهم الفسيولوجي، ويتحملون وطأة الآثار القاسية للصراع، فهناك أطفال لا يحظون بأبسط الحقوق كالحماية، مثل بقية أطفال العالم، وهناك أطفال يتعرضون للاستغلال والاعتداء وسوء المعاملة، وانتهاك الحقوق بشكل خطير ومقلق.
وفي بيان حديث لمنظمة "إنقاذ الطفولة" الدولية، فإن الأطفال في اليمن يتعرضون لخطر نقص المتخصصين الاجتماعيين والمساحات الآمنة والدعم النفسي والاجتماعي، ولا شك أن الأطفال في مخيمات النازحين معرضون أكثر للخطر، وهم يعانون من تحديات جمة، الأمر الذي يعرضهم لمشاكل نفسية ويدمر مستقبلهم.
ولهذا كانت حماية الطفولة من أولويات الوصول الإنساني، وفي سبيل ذلك أنشأت 11 مساحة خاصة بهم، في محافظات حضرموت ومأرب والحديدة والمهرة وشبوة، ضمن مشروع الحماية وسبل العيش، بدعم من (UNFPA)، لخلق بيئة تركز على الطفل، وتدعم تفاعله الإيجابي مع أقرانه والمجتمع المحيط به، وممارسة حقوقه، واستفاد من هذه المساحات 14179 طفلا وطفلة، منذ مطلع العام الجاري، وحتى شهر أغسطس الماضي.
حيث قدمت مساحات الأطفال مجموعة من الخدمات عبر أخصائيون مؤهلون، منها الدعم النفسي والأنشطة الترفيهية والتثقيفية، وتنمية المهارات، إيمانا بأن كل طفل، بغض النظر عن ظروفه، لديه حق أساسي في العيش والتعلم واللعب دون خوف، كما ساعدت هذه المساحات في تهيئة الأمهات الناجيات من العنف لتلقي خدمات الاستجابة لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي داخل المساحات الآمنة.
ومن الرائع رؤية سعادة الأطفال المتضررين من الصراع بهذه المساحات، فهي بالنسبة لهم واحدة من الأماكن القليلة جدا التي يمكن أن يكونوا فيها أطفالا، فهي مكان يتعلمون فيه ويلعبون ويمارسون أنشطة في الهواء الطلق، وحماية حقوق كل طفل، أيا كان وفي كل مكان، هي أضمن طريقة لبناء عالم أكثر سلاما وازدهارا وعدلا للجميع، فالحرمان والتمييز خلال الطفولة يسببان ضررا قد يدوم مدى الحياة.
(أ.ق).. من ظلام اليتم إلى نور التمكين الاقتصادي
تحفل مسيرة المساحة الآمنة للنساء والفتيات، التي تديرها الوصول الإنساني، بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان، بالكثير من الأمثلة الملهمة، ومنها الفتاة (أ.ق)، البالغة من العمر 23 عاما، وتم ترميز اسمها لحماية هويتها، ولها تجربة قاسية ابتدأت باليتم، وما يترتب عليه من تداعيات خطيرة، وانتهت بمنارة الأمل.
حيث انفصلا والديها مع السنوات الأولى من طفولتها، لتكون ضحية هذا التفكك الأسري المدفوع ثمنه قهرا وحرمانا، وهي انتكاسة لا يدركها إلا من عايشها، وتزداد المأساة عند تكون الضحية فتاة محصورة بين حيطان منزل ضيق، في واقع لا تغشاه بارقة أمل، فجميع الأبواب مغلقة أمامها، وتواجه تحديات مختلفة.
وقد عاشت على هامش الحياة مع والداتها في كنف أحد أقرباء أمها، بانتظار ما يجود به الأقرباء عليهما لتلبية احتياجاتهما الأساسية، وسط تمييز ملحوظ، ولم تسلم من العنف القائم على النوع الاجتماعي، لكونها فتاة ويتيمة، في مجتمع النساء فيه مستضعفات أصلا، والعنف ضد المرأة منتشر.
كانت (أ.ق)، مجروحة المشاعر، ومتعطشة لتحقيق ذاتها وتحطيم القيود الاجتماعية المفروضة عليها باعتبارها امرأة، وتبحث عن متنفس، وبعد رحلة مضنية وصلت إليه عبر إحدى المساحات الصديقة للأطفال في محافظة حضرموت، والتي مثلت لها نقطة تحول في حياتها، ومرحلة مضيئة من الاعتماد على الذات.
إذ تم دعمها نفسيا للخروج من تبعات اليتم والحرمان، ثم جرى تأهيلها مهنيا في مجال صيانة وبرمجة الجوالات، وتمكينها اقتصاديا بتسليمها مستلزمات هذه المهنة النوعية المدرة للدخل، لمساعدتها على الاستقلال المالي، ولتكون قادرة على تحقيق كامل إمكاناتها وقوتها.
وبسرعة استطاعت (أ.ق)، فتح محل لصيانة وبرمجة الهواتف الذكية، وتقديم هذه الخدمة الهامة لمجتمع النساء، لحماية بياناتهن وخصوصيتهن، ونيل الاستقلال المادي الذي مكنها من تلبية احتياجاتها، وتعزيز مكانتها في الأسرة والمجتمع.
وهي اليوم تعمل بشغف في إدارة مشروعها الخاص، وتتابع كل جديد في عالم الجوالات، بل وتطمح للتوسع، وتعلق (أ.ق)، على هذا التمكين بالقول: "وجدت نفسي وأبصرت النور، نسيت آلام الماضي، لقد غيرت المساحة الصديقة حياتي"، وهناك قصص نجاح كثيرة وفريدة من نوعها مشابهة لقصتها، لنساء من مختلف الفئات الضعيفة مثل لهن مشروع الحماية وسبل العيش طوق نجاة.